فصل: مطلب جواز تذكير اسم الجمع وشبهه وكيفية هضم الطعام وصيرورة اللبن في الضرع والدم في الكبد والطحال وغيرها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب من أنواع السجود للّه وتطاول العرب لاتخاذ الملائكة آلهة:

وهذه الآية شاملة لنوعي السجود، لأنه سجود طاعة وعبادة كسجود الملائكة والآدميين وسجود انقياد وخضوع كسجود الضلال والدواب، وجاء بلفظ ما الموضوعة لما لا يعقل تغليبا لأنه أكثر مما يعقل كتغليب المذكر على المؤنث وجمعها جمع من يعقل، لأنه وصفها بصفته، لأن السجود من شأن من يعقل، وهذه السجدة من عزائم السجود وقد بينا ما يتعلق فيه في الآية 37، 38 من سورة فصلت المارة فراجعه ترشد لما تريده فيه.
{وَقالَ اللَّهُ} تعالى يا ابن آدم إني نهيتكم كما نهيت آباءكم من قبل على لسان رسلي أن {لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ} الإله الذي يعبد في السماء والأرض هو {إِلهٌ واحِدٌ} فرد صمد لا رب غيره ولا إله سواه ولا يستحق العبادة إلا إياه، وإنما قال واحد لأن الاسم الحامل معنى الإفراد، والتثنية دال على شيئين الجنسية والعدد المخصوص، فإذا أريدت الدلالة على أن المعنى به منها هو العدد شفع بما يؤكده فدل به على القصد إليه والعناية به، ألا ترى أنك لو قلت إنما هو إله ولم تؤكده بواحد لم يحسن، وقيل لك إنك تثبت الإلهية لا الوحدانية، وإذا أريدت الدلالة على الجنسية فلا حاجة للتاكيد كما تقول واحد اثنين، ولهذا البحث صلة في الآية 23 من سورة الأنبياء الآتية عند قوله تعالى: {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا} الآية إن شاء اللّه، {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 51 لا ترهبوا غيري أبدا، وقد جاء بالالتفات من الغيبة إلى الحضور لأنه أبلغ من الترهيب، والرهب خوف مع حزن واضطراب، قال تعالى: {وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِبًا} ثابتا دائما واجبا لازما، قال أبو الأسود الدؤلي:
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه ** يوما بذم الدهر أجمع واصبا

وقال أمية بن الصلت:
وله الدين واصبا وله الملا ك ** وحمد له على كل حال

ثم خاطب خلقه على طريق الاستفهام بقوله جل قوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} أيها الناس بعد أن عرفتم ما قصصناه عليكم من كمال عزّته وكبير قدرته وعظيم سلطانه وجليل عفوه {وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} لا من غيره فيجب عليكم شكر نعمه {ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ} تضجّون بالدعاء وتصيحون بالاستغاثة ليكشفه عنكم، والجوأر رفع الصوت بالاستغاثة قال الأعشى:
يداوم من صلوات المليك ** طورا سجودا وطورا جؤارا

{ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} لأنهم يضيفونه إلى أسباب أخر ولا يعلمون أنه هو مسبب الأسباب فإذا كان الضر من القحط وأنعم اللّه عليهم بالغيث أضافوه إلى الكواكب وإذا كان مرضا أضافوا الشفاء إلى العقاقير، وإذا كان ريحا أو ولدا أضافوه إلى كسبهم، وما ذلك إلا {لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ} من تلك النعم بدل أن يشكروها ويحمدوا المنعم بها عليهم {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبة كفركم وجحدكم، وفي العدول من الغيبة إلى الخطاب على قراءة الفعلين بالتاء زيادة في التهديد والوعيد وقرأهما بعض القراء بالياء.
ثم شرع جل شأنه يعدّد مساوئهم فقال: {وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ} لآلهتهم التي لا يعلمون أحوالها من أنها لا تضرّ ولا تنفع ولا تحمي ولا تشفع {نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْناهُمْ} من الأنعام راجع الآية 138 من سورة الأنعام المارة تجدها مفصلة هناك، ثم أقسم بذاته الكريمة فقال: {تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ} أيها الكفرة {عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} في الدنيا من هذه الأشياء القبيحة وغيرها، وهذا السؤال يكون حتما يوم القيامة عن عدها آلهة، وتخصيص بعض نعمه إليها وتخظيظها بنصيب منها تشبيها لها بالآلهة {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ} وهم يكرهوهن لأنفسهم وذلك أن فرقا منهم كخزاعة وكناية يزعمون أن الملائكة بنات اللّه {سُبْحانَهُ} وتنزه وتعالى عن ذلك {وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ} من الذكور، أي كيف ينسبون النوع المحبوب إليهم والمكروه إلى ربهم {وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} من الكآبة والحياء من الناس كأنه جاء بشيء منكر فاحش {وَهُوَ كَظِيمٌ} ممتلىء غضبا وحنقا وحزنا على ما حل به من الغم وعلى زوجته أيضا كما أشرنا إليه في الآية 17 من لزخرف المارة {يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ} يتغيب عنهم ويستتر منهم {مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ} لئلا يرونه فيعيّرونه ثم يتفكر ماذا يصنع بها {أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ} بأن يتركه حيا فيربيه على هوان لنفسه ومذلة لها كأن ذلك المولود من زنى وقد ذكر الضمير باعتبار عوده إلى ما بشر به {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ} فيدفئه حيا فيئده حتى يموت تحته ويتخلص من عاره وشناره.
قال تعالى ذامّا صنيعهم هذا بقوله: {أَلا ساء ما يَحْكُمُونَ} في هذه القسمة وهذا الحياء وهذه السنة وهذا الإباء وهذا الوأد، راجع الآية 8 من سورة التكوير في ج 1 فيما يتعلق بهذا.
قال تعالى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} كراهية الإناث ووأدهن خشية العار أو الفقر {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى} نزاهته عن ذلك وتعاليه وغناه عن العالمين أجمع، وهذه الجملة لم تكرر في القرآن إلا في الآية 27 من سورة الروم الآتية {وَهُوَ الْعَزِيزُ} المتمتع في كبريائه الغالب، الغير محتاج لأحد من خلقه {الْحَكِيمُ} في إمهال عباده المتطاولين عليه لأمر يعلمه لأنه لا يؤاخذهم على ما يبدر منهم من الظلم والتعدي حالا بل بمهلهم ليتوبوا ويرجعوا عن غيهم {وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ} مثل هذا وأشباهه {ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ} بل لدمّر كل من على الأرض حالا {وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} لإيمان من يؤمن منهم وإصرار من بصر {فَإِذا جاء أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} عنه لحظة، وهذه الآية ونظيرتها في المعنى الآية 45 من سورة فاطر في ج 1 عامة في كل ظالم مخصوصتين في قوله: {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ} الآية 35 من سورة فاطر المذكورة، لأن في جنس الناس يدخل الأنبياء والصالحون ومن لا يطلق عليهم اسم الظلم، فاتقوا اللّه أيها الظلمة فلا تحملوا أوزاركم وأوزار غيركم بظلمكم، فقد يهلك بظلمكم وشؤمكم خلق كثير لا دخل لهم في أعمالكم، وقد فعل اللّه تعالى ذلك في قوم نوح عليه السلام عدا من كان في السفينة وأدخل الدواب التي لا تعقل بالهلاك عقوبة لكم، لأن أكثرها مخلوقة لمنافعكم وأنتم تظلمون أنفسكم وتتجاوزون حقوق اللّه وتتعدون حدوده.
واعلم أن البلاء قد يعم، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} الآية 15 من سورة الأنفال في ج 3، قال أبو هريرة: إن الحيارى لتهلك في وكرها بظلم الظالم.
وقال ابن مسعود: إن الجعل لتعذب في جحرها بذنب ابن آدم.
واعلموا أن اللّه لو يؤاخذكم بما يقع منكم لا نقطع نسلكم ولم يبق على وجه الأرض أحد، ولا حول ولا قوة إلا باللّه.
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ} لأنفسهم، وهذا بمقابلة قوله: {وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ} في الآية المارة 57 {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} مع ذلك إذ يتمنون {أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى} العاقبة الحسنة عند اللّه وهي الجنة في الآخرة وهو كذب محض وافتراء على اللّه، وهذا ردّ لقول الخبيث منهم {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى} الآية 50 من سورة فصّلت المارة والآية 36 من سورة الكهف أيضا.
قال تعالى: {لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} في الآخرة لا شيء لهم غيرها {وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} 62 معجلون إليها، والفرط التقدم إلى الماء قبل القوم ومنه قوله صلّى اللّه عليه وسلم «أنا فرطكم على الحوض»، لأنه صلّى اللّه عليه وسلم يقف على حوضه الكوثر يوم القيامة ويرد عليه المؤمنون به.
قال تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} رسلا كما أرسلناك إلى هذه الأمة {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ} كما زين لقومك أعمالهم القبيحة بالفاء الوسوسة إليهم وقبولها منهم وإلا ففي الحقيقة إن المزين هو اللّه تعالى، راجع الآية 39 من سورة الحجر المارة والآية 35 المارة من هذه السورة، والذين يتبعون ما يزين لهم الشيطان رغبة به {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} في الدنيا التي هم فيها لأن اليوم المعروف معروف في زمان الحال كالآن وصدر بصورة الحال ليستحضر السامع تلك الصورة العجيبة ويتعجب منها، ويسمى مثل هذا حكاية الحال الماضية، وهو استعارة من الحضور الخارجي إلى الحضور الذمني، والمراد به مدة الدنيا، لأنها كلها كالوقت الحاضر بالنسبة للآخرة، وهي شاملة للماضي والآتي وما بينهما {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} 63 في الآخرة لكفرهم باللّه واتخاذهم أولياء من دونه.
قال تعالى: {وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ} يا محمد {إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} من البعث وغيره لا لعة أخرى وهذا معنى الاستثناء المفرغ أي ما أنزلناه إلا لهذه الغاية، وهذه الآية قريبة في المعنى من الآية 39 المارة قبلها، ولقوله تعالى في الآية 44 المارة أيضا وتشمل كل شيء اختلفوا فيه من أمر الدين والدنيا، لأنه داخل ضمنها {وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} به فينتفعون بهديه ورشده أما غير المؤمنين فلن ينتفعوا به وهو عليهم عمى، راجع الآية 44 من سورة فصلت المارة {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماء ماء فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها} جدبها ويبسها لأنه موت بحقها {إِنَّ فِي ذلِكَ} الإحياء بعد الإماتة {لَآيَةً} دالة على البعث للإنسان بعد موته بالنسبة {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} 65 آيات اللّه سماع قبول فيعونها ويتدبرونها ويعقلون ما فيها، لأن سماع الأذان وحده لا يكفي للانتفاع بالمسموع، بل لابد من اقترانه بالقبول وإلا عدّ كسماع الموتى، ولهذا قال تعالى بحق الذين يسمعون ولا يعون: {وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} الآية 22 من سورة فاطر في ج 1.

.مطلب جواز تذكير اسم الجمع وشبهه وكيفية هضم الطعام وصيرورة اللبن في الضرع والدم في الكبد والطحال وغيرها:

هذا وبعد أن عدد اللّه تعالى مساوئهم وذكر الحكمة من إرسال الرسل وإنزال الكتب وضرب المثل لصحة البعث طفق يعدد نعمه على خلقه فقال: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ} المار ذكرها بصدر هذه السورة {لَعِبْرَةً} كبيرة وعظة عظيمة إذا تفكر بها، ثم بين هذه العبرة بقوله: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} ذكر الضمير وهو مؤنث لأن لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة الجمع، فكان ضميره ضمير الواحد المذكر بحسب اللفظ وبحسب المعنى جمع، فيكون ضميره ضمير الجمع وهو مؤنث، ولهذا المعنى ذكره هنا وأنثه في سورة المؤمنين في الآية 23 في نظير هذه الآية، والأنعام اسم جمع وكل ما كان كذلك يجوز فيه التذكير والتأنيث والجمع والإفراد من حيث اللفظ والمعنى، كالخيل والإبل والغنم وغيرها من أسماء الأجناس التي لا واحد لها من لفظها، قال الشاعر:
تركنا الخيل والنعم المفدى ** وقلنا للنساء بها أقيمي

وقال الكسائي إنما يفرد ويذكر على تقدير المذكور وذلك كقوله:
فيها خطوط من سواد وبلق ** كأنه في الجلد توليع البهق

وهذا شائع وفي القرآن سائغ، قال تعالى: {إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاء ذَكَرَهُ} الآيتين 54، 55 من سورة المدثر في ج 1، وقال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي} الآية 38 من الأنعام المارة، وإنما يكون هذا في التأنيث المجازي تدبر.
{مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} الفرث في الكرش ما دام فيها، نخرج {لَبَنًا خالِصًا} من شوائب الكدورة، ومن مصل الفرث والدم جاريا بسهولة هنيئا مريئا، بدلالة قوله: {سائِغًا لِلشَّارِبِينَ} لا غصّة فيه ولا يحتاج للمضغ ولا يثقل على المعدة ولا يحتاج للشرب بعده، وهو غذاء وماء يكفي الكبير والصغير، ذلك تدبير الحكيم القدير الذي هو بكل شيء خبير.
أخرج ابن مردويه عن يحيى بن عبد الرحمن ابن أبي لبيبة عن أبيه عن جده قال: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: «ما شرب أحد لبنا فشرق» إن اللّه تعالى يقول {لَبَنًا خالِصًا سائِغًا لِلشَّارِبِينَ} وهو كذلك، فإذا وقع الشرق فيه فاعلم أن اللبن مشوب بماء، لأن كلام الرسول لا ينخرم أبدا.
وقرئ {سيغا} بالتخفيف والتشديد، وهي قراءة جائزة لأن اللفظ يحتملها بلا زيادة ولا نقص لما ذكرنا أن التشديد والتخفيف والمد والإشباع لا يعد نقصا ولا زيادة.
هذا، واعلم أن الحيوان إذا تناول غذاءه ينزل إلى معدته إن كان إنسانا، وإلى كرشه إن كان حيوانا، وإلى أمعائه إن كان من غيرهما فيحصل في الغذاء الهضم الأول، فيجذب بقدرة اللّه تعالى الصافي إلى الكبد، والكثيف إلى الأمعاء، ثم يحصل الهضم الثاني في الذي انجذب إلى الكبد، فيصير دما مخلوطا بالصفراء والسوداء وزيادة المائية، فتجذب بحكمة الحكيم الصفراء إلى المرارة والسوداء إلى الطحال والمائية إلى الكلى، ومنها إلى المثانة، ويذهب الدم في العروق، وهي الأوردة الثابتة في الكبد، فيحصل الهضم الثالث، فيصب الدم من تلك العروق إلى الضرع وهو لحم غددي رخو أبيض، فينقلب بقدرة القادر ذلك الدم لبنا صافيا فيه.
هذا مصير الصافي من الغذاء، ولا يستبعد أحد كيفية الانجذاب المذكور، لأن القوة الجاذبة من أمر اللّه، والذي وضعها في الحديد يضعها في غيره، والنظر قوة جاذبية الاستفراغ وقس عليها.
وأما الكثيف الذي نزل إلى الأمعاء فيخرج فضلات، فسبحان اللطيف بخلقه، لأنه لو خرج الغذاء كله أو بقي كله لهلك الحيوان، ولكن اللّه تعالى يبقي ما يقيم به الوجود من الغذاء للإنسان والحيوان، ويخرج ما يضره، فله الحمد والشكر، ولهذه الحكمة ورد أنه صلّى اللّه عليه وسلم كان يقول عند خروجه من الخلاء: «غفرانك ثلاثا، الحمد للّه الذي أذهب عني الأذى وعافاني».
وكان نوح عليه السلام يقول الحمد للّه الذي أذاقني لذته وأبقى فيّ منفعته وأذهب عني أذاه واللّه أعلم.
هذا ولا يقال إن الحالة المارة موجودة في الذكر من الحيوان فلم لا يحصل منه اللبن، لأن أفعال اللّه لا تعلل، ولعل اللّه تعالى يصرفه لجهة أخرى في الذكر تزيد في قوته، لأن البشر ليس في طوقه الاطلاع على مكونات اللّه تعالى، وكيفية تراكيب مخلوقاته، ونتائج ما ركبت لأجله، لأن الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به، فأوجبت أن يكون مزاج الرجل حارا يابسا، والأنثى باردا رطبا، لأن التولد داخل في بدنها فاختصت بالرطوبة لتصير مادة للتولد وسببا لقبول التمدد والاتساع، وإن تلك الرطوبة بعد انفصال الجنين تنصب إلى الضرع فتصير مادة لقلب الدم لبنا، لأجل غذائه كما كانت في الرحم، حتى انك إذا بالغت بحلب الدابة خرج لك بالحليب حمرة تثبت لك أنه كان دما، ولم ينضج منه إلا ما خرج قبل المبالغة في الحلب، ولا يوجد في الرجل شيء من ذلك لعدم الحاجة إليه.
حكم حارت البرية فيها وحقيق بأنها تحتار:
أما من يقول كيف ينقلب الدم لبنا، فنقول له الذي قلب النطفة البيضاء دما في الرحم قلب الدم الأحمر لبنا أبيض في الضرع، وهذه النطفة مكونة من الدم، ولهذا فإن من يكثر الجماع قد ينزل دما.
هذا، وإذا تدبرت بدائع صنع الإله في هذا وغيره وعجائب مكوناته اضطررت للاعتراف بكمال قدرته، وتمام حكمته، وتناهي رحمته بعباده، وغاية رأفته بهم، قسرا، فسبحانه من إله عظيم أوحى إلى حبيبه {وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ} لكم عبرة عظيمة وعظة كبيرة أيها الناس {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ} من عصير التمر والعنب ثمر النخيل والكرم {سَكَرًا} مشروبا يتفكه به كما قال أبو عبيدة، وخمرا بلغة العرب، وقال ابن عباس مطعوما يتفكه به، قال الأخطل:
بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم ** إذا مجرى فيهم المزاء والسكر

والمزاء نوع من الأشربة المسكرة.
قيل إنه نقيع التمر والزبيب إذ طبخا وذهب تلثاهما، وما لا يسكر من الأنبذة، لأن اللّه تعالى قد امتنّ على عباده في هذه الآية به، ولا يقع الامتنان منه إلا بمحلل.
وقال ابن عباس: هو الخلّ بلغة الحبشة، واستدل على جواز شرب ما دون السكر من النبيذ صاحب ذلك القيل بهذا التأويل، وعضد استدلاله بما روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال: «حرم اللّه الخمر بعينها القليل منها والكثير والسكر-بضم السين- من كل شراب».
أخرجه الدار قطني.
وإلى حل شرب النبيذ إلى ما دون الإسكار، وذهب إبراهيم النخعي وأبو جعفر والطحاوي وسفيان الثوري، وأجازه أبو حنيفة وصاحبه أبو يوسف إذا لم يسكر، أما الخمرة فقليلها وكثيرها حرام، أسكرت أو لم تسكر.
قال تعالى: {وَرِزْقًا حَسَنًا} كالتمر والزبيب والعنب والدبس والأشربة المتخذة منهما التي تشرب آنيّا والخل أيضا.